الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال البيضاوي: سورة القلم:مكية.وآيها ثنتان وخمسون آية.بسم اللّه الرحمن الرحيم{ن} من أسماء الحروف، وقيل اسم الحوت والمراد به الجنس أو البهموت وهو الذي عليه الأرض، أو الدواة فإن بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سوادا من النفس يكتب به، ويؤيد الأول سكونه وكتبه بصورة الحرف. {والقلم} وهو الذي خط اللوح، أو الذي يخط به أقسم به تعالى لكثرة فوائده وأخفى ابن عامر والكسائي ويعقوب النون إجراء للواو المنفصل مجرى المتصل، فإن النون الساكنة تخفى مع حروف الفم إذا اتصلت بها. وقد روي ذلك عن نافع وعاصم، وقرئت بالفتح والكسر ك {ص}. {وما يسْطُرُون} وما يكتبون والضمير ل {القلم} بالمعنى الأول على التعظيم، أو بالمعنى الثاني على إرادة الجنس وإسناد الفعل إلى الأدلة وإجراؤه مجرى أولي العلم لإِقامته مقامهم، أو لأصحابه أو للحفظة و{ما} مصدرية أو موصولة.{ما أنت بِنِعْمةِ ربّك بِمجْنُونٍ} جواب القسم والمعنى ما أنت بمجنون منعما عليك بالنبوة وحصافة الرأي، والعامل في الحال معنى النفي وقيل {بِمجْنُونٍ} الباء لا تمنع عمله فيما قبله لأنها مزيدة، وفيه نظر من حيث المعنى.{وإِنّ لك لأجْرا} على الاحتمال والإبلاغ. {غيْر ممْنُونٍ} مقطوع أو ممنون به عليك من الناس فإنه تعالى يعطيك بلا توسط.{وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} إذ تتحمل من قومك ما لا يتحمل أمثالك، وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن، ألست تقرأ القرآن {قدْ أفْلح المؤمنون}».{فستُبْصِرُ ويُبْصِرُون بِأيّكُمُ المفتون} أيكم الذي فتن بالجنون والباء مزيدة، أو بأيكم الجنون على أن المفتون مصدر كالمعقول والمجلود، أو بأي الفريقين منكم المجنون أبفريق المؤمنين أو بفريق الكافرين، أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم.{إِنّ ربّك هُو أعْلمُ بِمن ضلّ عن سبِيلِهِ} وهم المجانين على الحقيقة. {وهُو أعْلمُ بالمهتدين} الفائزين بكمال العقل.{فلا تُطِعِ المكذبين} تهييج للتصميم على معاصاتهم.{ودُّواْ لوْ تُدْهِنُ} تلاينهم بأن تدع نهيهم عن الشرك، أو توافقهم فيه أحيانا. {فيُدْهِنُون} فيلاينونك بترك الطعن والموافقة، والفاء للعطف أي ودوا التداهن وتمنوه لكنهم أخروا ادهانهم حتى تدهن، أو للسببية أي {ودُّواْ لوْ تُدْهِنُ} فهم يدهنون حينئذ، أو ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون طمعا فيه، وفي بعض المصاحف {فيدهنوا} على أنه جواب التمني.{ولا تُطِعْ كُلّ حلاّفٍ} كثير الحلف في الحق والباطل. {مُّهِينٌ} حقير الرأي من المهانة وهي الحقارة.{همّازٍ} عياب. {مّشّاءٍ بِنمِيمٍ} نقال للحديث على وجه السعاية. {مّنّاعٍ لّلْخيْرِ} يمنع الناس عن الخير من الإِيمان والإِيقان والعمل الصالح. {مُعْتدٍ} متجاوز في الظلم. {أثِيمٍ} كثير الآثام.{عُتُلٍ} جافٍ غليظ من عتله إذا قاده بعنف وغلظة. {بعْد ذلِك} بعدما عد من مثالبه. {زنِيمٍ} دعي مأخوذ من زنمتي الشاة وهما المتدليتان من أذنها وحلقها، قيل هو الوليد بن المغيرة ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده. وقيل الأخنس بن شريق أصله من ثقيف وعداده في زهرة.{أن كان ذا مالٍ وبنِين إِذا تتلى عليْهِ ءاياتنا قال أساطير الأولين} قال ذلك حينئذ لأنه كان متمولا مستظهرا بالبنين من فرط غروره، لكن العامل مدلول قال لانفسه، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ويجوز أن يكون علة ل {لا تطع} أي لا تطع من هذه مثاله لأن كان ذا مال. وقرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب وأبو بكر {أن كان} على الاستفهام، غير أن ابن عامر جعل الهمزة الثانية بين بين أي {الأن كان ذا مال} كذب، أو أتطيعه لأن كان ذا مال. وقرئ {أن كان} بالكسر على أن شرط الغنى في النهي عن الطاعة كالتعليل بالفقر في النهي عن قتل الأولاد، أو {أن} شرطه للمخاطب أي لا تطعه شارطا يساره لأنه إذا أطاع للغني فكأنه شرطه في الطاعة.{سنسِمُهُ} بالكي. {على الخرطوم} على الأنف وقد أصاب أنف الوليد جراحة يوم بدر فبقي أثره، وقيل هو عبارة عن أن يذله غاية الإِذلال كقولهم: جدع أنفه، رغم أنفه، لأن السمة على الوجه سيما على الأنف شين ظاهر، أو نسود وجهه يوم القيامة.{إِنّا بلوناهم} بلونا أهل مكة شرفها الله تعالى، بالقحط. {كما بلوْنا أصحاب الجنة} يريد البستان الذي كان دون صنعاء بفرسخين، وكان لرجل صالح وكان ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأه المنجل وألقته الريح، أو بعد من البساط الذي يبسط تحت النخلة فيجتمع لهم شيء كثير، فلما مات قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعله أبونا ضاق علينا الأمر، فحلفوا {ليصْرِمُنّها} وقت الصباح خفية عن المساكين كما قال: {إِذْ أقْسمُواْ ليصْرِمُنّها مُصْبِحِين} ليقطعنها داخلين في الصباح.{ولا يسْتثْنُون} ولا يقولون إن شاء الله، وإنما سماه استثناء لما فيه من الإِخراج غير أن المخرج به خلاف المذكور والمخرج بالاستثناء عينه، أو لأن معنى لأخرج إن شاء الله ولا أخرج إلى أن يشاء الله واحد، أو {ولا يسْتثْنُون} حصة المساكين كما كان يخرج أبوهم.{فطاف عليْها} على الجنة. {طئِفٌ} بلاء طائف. {مِن ربّك} مبتدأ منه. {وهُمْ نائِمُون}.{فأصْبحتْ كالصريم} كالبستان الذي صرم ثماره بحيث لم يبق فيه شيء.فعيل بمعنى مفعول، أو كالليل باحتراقها واسودادها، أو كالنهار بابيضاضها من فرط اليبس سميا بالصريم لأن كلا منهما ينصرم عن صاحبه أو كالرمل.{فتنادوْاْ مُصْبِحِين أنِ اغدوا على حرْثِكُمْ} أن أخرجوا أو بأن أخرجوا إليه غدوة، وتعدية الفعل بعلى إما لتضمنه معنى الاقبال أو لتشبيه الغدو للصرام بغدو العدو المتضمن لمعنى الاستيلاء. {إِن كُنتُمْ صارمين} قاطعين له.{فانطلقوا وهُمْ يتخافتون} يتشاورون فيما بينهم وخفى وخفت وخفد بمعنى الكتم، ومنه الخفدود للخفاش.{أن لاّ يدْخُلنّها اليوم عليْكُمْ مّسْكِينٌ} {إن} مفسرة وقرئ بطرحها على إضمار القول، والمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه من الدخول كقولهم: لا أرينك ها هنا.{وغدوْاْ على حرْدٍ قادرين} وغدوا قادرين على نكد لا غير، من حاردت السنة إذا لم يكن فيها مطر، وحاردت الإِبل إذا منعت درها. والمعنى أنهم عزموا أن يتنكدوا على المساكين فتنكد عليهم بحيث لا يقدرون إلا على النكد، أو غدوا حاصلين على النكد والحرمان مكان كونهم قادرين على الانتفاع. وقيل الحرد بمعنى الحرد وقد قرئ به أي لم يقدروا إلا على حنق بعضهم لبعض كقوله: {يتلاومون} وقيل الحرد والقصد والسرعة قال:أي غدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وقيل علم للجنة.{فلمّا رأوْها} أول ما رأوها. {قالواْ إِنّا لضالُّون} طريق جنتنا وما هي بها.{بلْ نحْنُ} أي بعد ما تأملوه وعرفوا أنها هي قالوا {بلْ نحْنُ} {محْرُومُون} حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا.{قال أوْسطُهُمْ} رأيا، أو سنا. {ألمْ أقُلْ لّكُمْ لوْلا تُسبّحُون} لولا تذكرونه وتتوبون إليه من خبث نيتكم، وقد قاله حينما عزموا على ذلك ويدل على هذا المعنى.{قالواْ سبحان ربّنا إِنّا كُنّا ظالمين} أي لولا تستثنون فسمي الاستثناء تسبيحا لتشاركهما في التعظيم، أو لأنه تنزيه على أن يجري في ملكه ما لا يريده.{فأقْبل بعْضُهُمْ على بعْضٍ يتلاومون} يلوم بعضهم بعضا فإن منهم من أشار بذلك ومنهم من استصوبه، ومنهم من سكت راضيا، ومنهم من أنكره.{قالواْ ياويلنا إِنّا كُنّا طاغين} متجاوزين حدود الله تعالى.{عسى ربُّنا أن يُبْدِلنا خيْرا مّنْها} ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة. وقد روي أنهم أبدلوا خيرا منها وقرئ {يُبْدِلنا} بالتخفيف. {إِنّا إلى ربّنا راغبون} راجون العفو طالبون الخير و{إلى} لانتهاء الرغبة، أو لتضمنها معنى الرجوع.{كذلِك العذاب} مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة العذاب في الدنيا. {ولعذابُ الآخرة أكْبرُ} أعظم منه. {لوْ كانُواْ يعْلمُون} لاحترزوا عما يؤديهم إلى العذاب.{إِنّ لّلْمُتّقِين عِنْد ربّهِمْ} أي في الآخرة، أو في جوار القدس. {جنات النعيم} جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص.{أفنجْعلُ المسلمين كالمجرمين} إنكار لقول الكفرة، فإنهم كانوا يقولون: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يفضلونا بل نكون أحسن حالا منهم كما نحن عليه في الدنيا.{ما لكُمْ كيْف تحْكُمُون} التفات فيه تعجب من حكمهم واستبعاد له، وإشعار بأنه صادر من اختلال فكر واعوجاج رأي.{أمْ لكُمْ كتاب} من السماء. {فِيهِ تدْرُسُون} تقرأون.{إِنّ لكُمْ فِيهِ لما تخيّرُون} إن لكم ما تختارونه وتشتهونه، وأصله (أن لكم) بالفتح لأنه المدروس فلما جيء باللام كسرت، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس أو استئنافا وتخير الشيء واختاره أخذ خيره.{أمْ لكُمْ أيمان عليْنا} عهود مؤكدة بالإِيمان. {بالغة} متناهية في التوكيد، وقرئت بالنصب على الحال والعامل فيها أحد الظرفين. {إلى يوْمِ القيامة} متعلق بالمقدر في {لكُمْ} أي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها حتى نحكمكم في ذلك اليوم، أو ب {بالغة} أي أيمان تبلغ ذلك اليوم. {إِنّ لكُمْ لما تحْكُمُون} جواب القسم لأن معنى {أم لكم أيمان علينا} أم أقسمنا لكم.{سلْهُمْ أيُّهُم بذلك زعِيمٌ} بذلك الحكم قائم يدعيه ويصححه.{أمْ لهُمْ شُركاء} يشاركونهم في هذا القول. {فلْيأتُواْ بِشُركائِهِمْ إِن كانُواْ صادقين} في دعواهم إذ لا أقل من التقليد، وقد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل أو نقل يدل عليه الاستحقاق أو وعد أو محض تقليد، على الترتيب تنبيها على مراتب النظر وتزييفا لما لا سند له. وقيل المعنى {أمْ لهُمْ شُركاء} يعني الأصنام يجعلونهم مثل المؤمنين في الآخرة كأنه لما نفى أن تكون التسوية من الله تعالى نفى بهذا أن تكون مما يشاركون الله به.{يوْم يُكْشفُ عن ساقٍ} يوم يشتد الأمر ويصعب الخطب وكشف الساق مثل في ذلك، وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب. قال حاتم: أو يوم يكشف عن أصل الأمر وحقيقته بحيث يصير عيانا مستعار من ساق الشجر وساق الإِنسان، وتنكيره للتهويل أو للتعظيم. وقرئ {تكشف} و{تكشف} بالتاء على بناء الفاعل أو المفعول والفعل للساعة أو الحال. {ويُدْعوْن إِلى السجود} توبيخا على تركهم السجود إن كان اليوم يوم القيامة، أو يدعون إلى الصلوات لأوقاتها إن كان وقت النزع. {فلا يسْتطِيعُون} لذهاب وقته أو زوال القدرة عليه.{خاشعة أبصارهم ترْهقُهُمْ ذِلّةٌ} تلحقهم ذلة. {وقدْ كانُواْ يُدْعوْن إِلى السجود} في الدنيا أو زمان الصحة. {وهُمْ سالمون} متمكنون منه مزاحو العلل فيه.{فذرْنِى ومن يُكذّبُ بهذا الحديث} كله إِليّ فإني أكفيكه. {سنسْتدْرِجُهُم} سندنيهم من العذاب درجة درجة بالإِمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة. {مّنْ حيْثُ لا يعْلمُون} أنه استدراج وهو الإِنعام عليهم لأنهم حسبوه تفضيلا لهم على المؤمنين.{وأُمْلِى لهُمْ} وأمهلهم. {إِنّ كيْدِى متِينٌ} لا يدفع بشيء، وإنما سمي إنعامه استدراجا بالكيد لأنه في صورته.{أمْ تسْئلُهُمْ أجْرا} على الإِرشاد. {فهُم مّن مّغْرمٍ} من غرامة. {مُّثْقلُون} يحملها فيعرضون عنك.{أمْ عِندهُمُ الغيب} اللوح أو المغيبات. {فهُمْ يكْتُبُون} منه ما يحكمون به ويستغنون به عن علمك.{فاصبر لِحُكْمِ ربّك} وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم. {ولا تكُن كصاحب الحوت} يونس عليه الصلاة والسلام. {إِذْ نادى} في بطن الحوت. {وهُو مكْظُومٌ} مملوء غيظا من الضجر فتبتلي ببلائه.{لّوْلا أن تداركهُ نِعْمةٌ مّن رّبّهِ} يعني التوفيق للتوبة وقبولها وحسن تذكير الفعل للفصل، وقرئ {تداركته} و{تداركه} أي تتداركه على حكاية الحال الماضية بمعنى لولا كان يقال فيه تتداركه. {لنُبِذ بالعراء} بالأرض الخالية عن الأشجار. {وهُو مذْمُومٌ} مليم مطرود عن الرحمة والكرامة. وهو حال يعتمد عليها الجواب لأنها المنفية دون النبذ.{فاجتباه ربُّهُ} بأن رد الوحي إليه، أو استنبأه إن صح أنه لم يكن نبيا قبل هذه الواقعة. {فجعلهُ مِن الصالحين} من الكاملين في الصلاح بأن عصمه من أن يفعل ما تركه أولى، وفيه دليل على خلق الأفعال والآية نزلت حين هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو على ثقيف، وقيل بأحد حين حل به ما حل فأراد أن يدعو على المنهزمين.{وإِن يكادُ الذين كفرُواْ ليُزْلِقُونك بأبصارهم} {إن} هي المخففة واللام دليلها والمعنى: إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك، أو يهلكونك من قولهم نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني، أي لو أمكنه بنظره الصرع لفعله، أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين. إذ روي أنه كان في بني أسد عيانون، فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وفي الحديث: «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر» ولعله يكون من خصائص بعض النفوس. وقرأ نافع {ليُزْلِقُونك} من زلقته فزلق كحزنته فحزن، وقرئ {ليزهقونك} أي ليهلكونك. {لمّا سمِعُواْ الذكر} أي القرآن أي ينبعث عند سماعه بغضهم وحسدهم. {ويقولون إِنّهُ لمجْنُونٌ} حيرة في أمره وتنفيرا عنه.{وما هُو إِلاّ ذِكْرٌ لّلْعالمِين} لما جننوه لأجل القرآن بين أنه ذكر عام لا يدركه ولا يتعاطاه إلا من كان أكمل الناس عقلا وأميزهم رأيا.عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم».
|